ـ التأويل هو الإستيحـاء للمعنى من خلال التقاء المعاني في الأهداف.
ـ التأويل لا يعني المعنى الباطن للكلمة.
ـ ليس للقرآن بطون، بل أنزل ليفهمه الجميع بشكل طبيعي.
يقول السيد محمد حسين فضل الله:
قد جاء عن الأمام الباقر عليه السلام فيما رواه عنه الفضيل بن يسار، قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: قول الله عزّ وجل في كتابه: {ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً} قال: من حرق أو غرق، ثم سكت ، ثم قال: تأويلها الأعظم أن دعاها فاستجابت له .
ويمكن لنا من خلال الروايات فهم "التأويل" بمعناه الحقيقي لا الباطني كما يحاول البعض تفسيره فالقرآن قد أنزل على طريقة العرب في التعبير، ليفهمه الجميع بشكل طبيعي.. من دون أن يكون فيه أي إشارات رمزية.. في ما تعارف عليه الأسلوب الرمزي الذي يحمّل الكلمة غير معناها، ويجري بها في غير مجالها من دون أساس للاستعارة والكناية والمجاز.. لذا فإن التأويل ليس إلا عملية الإستيحاء للمعنى من خلال التقاء المعاني ببعضها البعض في الأهداف التي يستهدفها القرآن في القضايا التي يثيرها أمام الناس، والمفاهيم التي يريد أن يوحيها اليهم.. كما في هذه الآية التي تحدثت عن الحياة والموت، وعن الناس الذين يعتدون على الحياة، وعن الناس الذين ينقذونها.
.. فقد يستوحي منها الإنسان الفكرة فيمن ينقلون الناس من الضلال إلى الهدى، أو بالعكس، أو فيمن ينقلونه من الجهل إلى العلم أو بالعكس، وذلك لأن الله قد أشار إلى ذلك في قوله تعالى: {يا أيها الذين أمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم}، كما عبر عن الذين يعيشون الضلال في واقعهم بالموتى في قوله تعالى: {إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولّوا مدبرين}، وهكذا يمكن لعملية الإستيحاء هذه أن تأخذ من الحياة والموت كل الأجواء التي تشارك هذين المعنيين في تحويل الإنسان من حالة الجمود إلى حالة اليقظة والحركة على مستوى الفكر والعمل والحياة" [من وحي القرآن ج8ص144-145ط2]
وقد قال في موضع أخر عن هذه الرواية المروية عن الأمام الباقر عليه السلام:
"فالإمام في ذلك يستوحي الحياة المعنوية من الحياة المادية" [ للإنسان والحياة ص307-310]
ونقول:
ولنا هنا مع ما ذكره السيد فضل الله كلام كثير، لكن بما أن المقام ليس مقام تحقيق وتفصيل، فإننا سوف نقتصر على الإلماح إلى ثلاث نقاط، آثرنا الوقوف عندها، وهي التالية:
1 ـ إن هذا الرجل قد حاول أن ينكر بطون القرآن ـ واعتبرها من المحاولات التفسيرية لبعضهم ـ وقد برهن على مدّعاه هذا بمقولة أن القرآن قد أنزل على طريقة العرب في التعبير، ليفهمه الجميع بشكل طبيعي، من دون أن يكون فيه أي إشارات رمزية الخ..
2 ـ قوله:
"بل التأويل يمثل عملية الإستيحاء للمعنى من خلال التقاء المعاني ببعضها في الأهداف التي يستهدفها القرآن، في القضايا التي يثيرها أمام الناس، والمفاهيم التي يريد أن يوحيها إليهم."
3 ـ ثم إنه قد ذكر في مناسبات عديدة أن الأئمة عليهم السلام كانوا يستوحون القرآن، وعقّب على ذلك في بعض الموارد بقوله:
"أعتقد أننا يجب أن نستوحي القرآن كما كان الأئمة يستوحونه" [ للإنسان والحياة ص307-310]
ونحن نرى ذلك كله إخلالاً في جهات هامة، حبذا لو سنحت الفرصة لنا للتوسع في الحديث عنها وفيها، لاسيما بعد أن عرفنا أنه يقصد بالإستيحاء: "الإجتهاد"، غير أن علينا أن نتوقف قليلاً أمام تبسيطه القضايا إلى حد يجعل من فهم القرآن أمراً طبيعياً حيث يقول: فإنه قد نزل على طريقة العرب في التعبير، ليفهمه الجميع بشكل طبيعي.. إذ إن الأمر ليس بهذه البساطة التي يدعيها، لأنا نبقى جميعاً وبلا استثناء بحاجة إلى النبي (ص)، وإلى الأمام (ع) ليفسر لنا القرآن ويبقى أكثر الناس بحاجة إلى العلماء ليفسروا لهم ما يمكنهم تفسيره. كما أن في القرآن آيات لا يعلم تأويلها إلا الله والراسخون في العلم، الذين هم الأنبياء والأوصياء، فليس التأويل الذي يعلمه الأمام مجرد عملية استيحاء للمعنى، بل هو علم من ذي علم، على حد تعبيرهم عليهم السلام.
بطون القرآن و الإستيحاء والتأويل:
وعن "أن للقرآن بطوناً" نقول:
قد صرّحت الروايات المتواترة بذلك، فلا معنى لإنكار ذلك. ولا صحة لما يحاوله السيد فضل الله من تفسيره لبطون القرآن بالإستيحاءات، بل هي حقائق ثابتة أخبر المعصوم عنها، وليست مجرد استيحاءات.
ومهما يكن من أمر فإننا نشير هنا إلى بعض ما يرتبط بالتأويل، ثم إلى بطون القرآن لنؤكد على حقيقة أننا بحاجة إلى المعصوم، ليعلّمنا التأويل، وليكشف لنا عن غوامضه وبطونه، ويفسره لنا، لأنه لا يتظنّى تأويله، بل يتيقّن حقائقه كما في الرواية عنهم (ع).
أما ما يستوحيه غيرهم فهو من التظني، وربما يصل إلى حد الحدس والتخمين، بل و التخرص و الرجم بالغيب.
تأويل القرآن:
قد يطلق التأويل على التفسير وبيان الوجه الخفي لما ظهر من فعل أو نحوه، وذلك كما في قول العبد الصالح لموسى {ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا} وفيما عدا ذلك فإن المتأمل في آيات القرآن يجد أنه أطلق وأريد منه معنيان:
أحدهما: تحقّق مصداق ما تحدّث عنه، وظهور حقيقته في المستقبل، كما في قوله تعالى:
{ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون. هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل: قد جاءت رسل ربنا بالحق، فهل لنا من شفعاء؟} سورة الأعراف آية 52و53
وقوله تعالى:
{بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه، ولما يأتهم تأويله} سورة يونس آية 39
وقال تعالى حكاية عن يوسف:
{لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله} سورة يوسف آية 37
الثاني: رجوع المتشابه إلى المحكم من آيات القرآن، كما جاء في قوله تعالى:
{هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أم الكتاب وأخر متشابهات، فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذّكّر إلا أولوا الألباب} سورة آل عمران آية 7
فظهر مما تقدم:
1 ـ أن التأويل يحتاج إلى تعليم إلهي ولا يصح فيه التخرص والتخمين والتظنّي، فقد قال تعالى بالنسبة ليوسف:
{وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث، ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب} سورة يوسف آية 6
وقال تعالى:
{ربِّ قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث، فاطر السموات والأرض، أنت وليّي في الدنيا والآخرة} سورة يوسف آية 101
وقال سبحانه:
{وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته، أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا، وكذلك مكنّا ليوسف في الأرض، ولنعلمه من تأويل الأحاديث، والله غالب على أمره} سورة يوسف آية 21
2 ـ إن آية سورة آل عمران المتقدمة {لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم} تفيد أن العلم بتأويل آيات القرآن مقصور عليه سبحانه وتعالى، وعلى الراسخين في العلم، باعتبار أن الواو عاطفة، كما ظهر من الأحاديث الواردة عن أهل البيت عليهم السلام في تفسير الآية، فعن أبي عبد الله عليه السلام: نحن الراسخون في العلم، ونحن نعلم تأويله الكافي ج 1 ص213 وتفسير البرهان ج1 ص 270و272 عنه وعن تفسير العياشي ج1 ص164
وعن الباقر أو الصادق عليهما السلام في تفسير الآية: فرسول الله أفضل الراسخين في العلم، قد علّمه الله عز وجل جميع ما أنزل عليه من التنزيل والتأويل، وما كان الله لينزل عليه شيئاً لم يعلّمه تأويله، والأوصياء من بعده يعلمونه كله الخ.. الكافي ج 1 ص 213 والبرهان في تفسير القرآن ج 1ص 270 و271 وتفسير القمي ج 1 ص 96و97 وعن العياشي ج 1ص 164
وعن الفضيل بن يسار، عن أبي جعفر (ع): {وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم}: نحن نَعلَمُهُ تفسير العياشي ج1 ص 164 والبرهان في تفسير القرآن ج 1 ص 271
وثمة روايات أخرى تدل على ذلك فلتراجع في مظانها.
3 ـ وعن الأمام الحسن عليه السلام، في خطبة له بعد البيعة له ذكر فيها أنهم أحد الثقلين: التالي كتاب الله فيه تفصيل كل شيء، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فالمعوَّل علينا في تفسيره، لا نتظنى تأويله، بل نتيقن حقائقه، فأطيعونا فإن طاعتنا مفروضة الخ.. بحار الأنوار ج 43 ص 359عن الأمالي للشيخ المفيد. وعن الأمالي للشيخ الطوسي ص 120 ط مؤسسة البعثة ـ دار الثقافة
وما ذلك إلا لأن القرآن ـ كما قال رسول الله (ص) ـ لا تحصى عجائبه، ولا يشبع منه علماؤه.ولعمري بعد قول الأمام (ع):" لا تنتظنّى تأويله، بل نتيقن حقائقه "، كيف يدّعي البعض لنفسه تأويل واستيحاء القرآن كالإمام (ع) !؟.
بطون القرآن:
أما بالنسبة لبطون القرآن فنقول:
لقد ثبت وجود بطون للقرآن بالنصوص الكثيرة الواردة من طرق الشيعة وغيرهم، ونذكر منها ما يلي:
في خطبة مروية عن النبي صلى الله عليه واله وسلم يقول: له ظهر وبطن، فظاهره حكم، وباطنه علم، لا تحصى عجائبه، ولا يشبع منه علماؤه كنز العمال ج2 ص 186، وليراجع ج1 ص 337، وحياة الصحابة ج3 ص 456 عنه وعن العسكري، وراجع: نور القبس ص 268/269
وعنه صلى الله عليه واله وسلم:
ما في كتاب الله آية إلا ولها ظهر وبطن، ولكل حد مطلع الزهد والرقائق، قسم ما رواه نعيم بن حماد ص23 وفي الهامش عن المشكاة ص 27، وراجع الإتقان ج2 184 و 128، والموافقات للشاطبي ج 3ص 382 وفي الهامش عن روح المعاني وعن المصابيح، وراجع غرائب القرآن (مطبوع بهامش جامع البيان) ج 1 ص 23 و21 ولباب التأويل للخازن ج 1 ص 10 والفائق ج 2 ص 381 وراجع التراتيب الإدارية ج 2 ص 176
قال ابن المبارك: سمعت غير واحد في هذا الحديث:
ما في كتاب الله آية إلا ولها ظهر وبطن، يقول: لها تفسير ظاهر، وتفسير خفي، ولكل حد مطلع، يقول: يطلع عليه قوم يستعملونه على تلك المعاني، ثم يذهب ذلك القرن، فيجيء قرن آخر، فيطلعون منه على معنى أخر، فيذهب عليه ما كان قبلهم، فلا يزال الناس على ذلك إلى يوم القيامة الزهد والرقائق، قسم ما رواه نعيم بن حماد ص23
وعن ابن عباس قال:
إن القرآن ذو شجون، وفنون، وبطون، ومحكم ومتشابه، وظهر وبطن، فظهره التلاوة، وبطنه التأويل الإتقان ج2 ص 185 عن ابن أبي حاتم
وعن الحسن البصري:
ما أنزل الله عز وجل آية إلا ولها ظهر وبطن، ولكل حرف حد، ولكل حد مطلع كنز العمال ج1 ص 488 عن أبي عبيد في فضائله وعن أبي نصر السجزي في الإبانة
وعن ابن مسعود:
إن القرآن نزل على سبعة أحرف ما منها حرف إلا وله ظهر وبطن، وإن علي بن أبي طالب عنده منه الظاهر والباطن